Yazı

لو عاش أدونيس في إسطنبول! | عمر أرديم

هذا المقال كتبه الشاعر عمر أرديم في صحيفة “قرار” التركية الصادرة بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2020، ننشره بترجمة أحمد عز الدين الشاغل.

لم يشأ إداريو الدولة العثمانية أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن السبب الذي أضمره المثقفون وعلى رأسهم الفتاة الأتراك عندما غادروا نحو الغرب من أجل التنفس بحُرِّيَّة والكتابة وإبداء رأيهم بدون خوف. وعلى الرغم من جميع الإصلاحات التي اتسمت بنية حسنة في عصر عبد الحميد الثاني إلا أن عصرًا مظلمًا دام 33 عامًا لم يحاول التقصي عن ذلك السبب، بل قاموا من خلال المفاهيم التي اخترعوها عن الوطن والخيانة بإلصاق تلك التهم بالجميع بدون وجه حق. إلا أن الإمبراطورية العثمانية وقلبها النابض إسطنبول كانت مركز جاذبية في الماضي وكانت حاضنة رجال الثقافة والفن إذا غضضنا الطرف عن بعض الاستثناءات في هذا المجال. وقد كانت إسطنبول المكان الذي أراد أن يكون الجميع فيه من كل مذهب ومشرب انطلاقًا من الشعراء والعلماء والفنانين والرحالة والمغامرين والتجار إلى الجواسيس والمفكرين. وقد بذل السلطان محمد الفاتح الذي قام بفتح إسطنبول  قصارى جهده من البداية من أجل إحياء هذه المدينة المتعددة الثقافة والبنية الطبقية. فميراث روما لم يكن يوجب قوة عسكرية وسياسية فحسب بل كان يفرض مسؤولية في الجانب الثقافي أيضًا. وقد بدأت إسطنبول التي كانت تحمل هذه المكانة حتى منتصف القرن التاسع عشر بفقد هذه المكانة شيئًا فشيئًا كما حوصرت انطلاقًا من محيطها التي هي فيه حتى قلبها وما هي إلا فترة قصيرة حتى وصلت إلى البنية الفوضوية التي هي عليها اليوم. فلا مكانة لها اليوم كمركز عالمي وخصوصًا من الجانب الثقافي.

عندما كنت أقرأ ترجمة محمد حقي صوتشين لـ”المعلّقات السبع” إلى اللغة التركية، وعندما وقفت على نصٍّ في الترجمة بقلم أدونيس تبادرَ إلى ذهني سؤال: ماذا لو عاش أدونيس في إسطنبول؟ ثم تمتمت في نفسي قائلاً: لماذا لا يعيش أدونيس في إسطنبول؟ بل هل كان أدونيس يستطيع أن يعيش في إسطنبول؟ لقد لفت الكاتب إريك أورباخ في كتابه الأسطوري “محاكاة الواقع كما يتصوره أدب الغرب” التعدد البشري الذي لاحظه في إسطنبول التي لجأ إليها في مراقباته على جسر غلطة، وقد أكد على قابلية إسطنبول لاحتضانها وقوة جذبها للطبقة المثقفة من كل طائفة ومعتقد وثقافة. وهذا ما نلاحظ شبيها له عند ألبرتو مانغويل أيضًا، فطريق جَدِّه مرّ بشكل أو آخر من إسطنبول. وهذا طبيعي فالمسافرون لا يمرون على ميناء غير آمن بالنسبة لهم. وهكذا فإنه بغض النظر عن النقاشات التي أثيرت في الماضي فمن الواجب التفكير في السبب الذي دفع الشعراء والكتّاب مثل أدونيس وأمين معلوف لاختيار باريس لا إسطنبول ملجأ لهم، ففي النهاية فإن إسطنبول هي أيضًا مدينتهم.

إن محمد حقي صوتشين وللمرة الأولى لم يكتف بعكس العالم الشعري لـ”الجاهلية” ولكنه قام أيضًا بفضل أدونيس بإظهار العمق الشعري للمعلّقات أيضًا. وقد أتى صوتشين على ذكر الترجمات السابقة (التي كانت في معظمها على شكل نثر) مُبديًا احترامه لها، لكننا للمرة الأولى نستطيع من خلال هذا العمل أن نرى عالمًا جليًّا من الشعر، نقيًا من الأحكام المسبقة. وعندما يجول في مخيلتي سؤال “ماذا لو كان أدونيس يعيش في إسطنبول؟”، أكون أعبر عن الاحترام الذي أكنه لهذه المدينة، ولكن على هذه المدينة أن تقوم ببناء استراتيجية نستطيع من خلالها أن نقرأ أدونيس من صوته وعينيه لا من كتبه. فمن الواجب أن تكون في إسطنبول مرة أخرى ملجأ ليس لأدونيس فحسب ولكن لرجال الثقافة والفن من كل أنحاء المعمورة، ويجب عليها أن تؤمن لهم الإمكانات اللازمة في كافة المجالات الاجتماعية والثقافية. كما يجب عليها أن تفتح لهم مجالات جديدة بيننا لقيم مضافة جاؤوا بها تتجاوز به المفهومات التي “اختلقت” فيما بعد مثل الوطن والشعب والبطولة والخيانة. كما يجب على كل واحد ومن كل مشرب بدءًا من الشاعر والكاتب والرسام والفنان حتى المفكر والناشط والسياسي أن تكون وجهته إسطنبول.

إن هدف المثقفين الذي خرجوا قبل 150 سنة من إسطنبول ووجدوا طريقًا جديدًا لهم مماثل لمن بقي فيها وعمل على إبقاء الدولة على سروج خيلها، فالهدف كان مشتركًا وهو “إنقاذ البلد”. فالخلاف بينهما كان على الطريقة لا على الهدف، ولكن السلطة الحاكمة لم تألو جهدًا في إبعاد المعارضين لها ولعنتهم. فهل كان حكم السلطان سليمان القانوني الذي استمر لأربع وستين سنة وحكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي استمر لثلاثة وثلاثين عامًا خالية من الشكر تمامًا؟ أم أن جدلية الاستمرارية الطويلة بشكل أو آخر لم تكن إلا لتخلق مصاعب عدة؟ فمخرج بلد ما ألا يشبه ارتفاع مدينة ما لا يمكن له إلا الارتباط بالانفتاح والثقة بالنفس متعددة الاتجاهات؟ فالمثقفون القادمون من سوريا ولبنان والجزائر وتونس ومصر وأوزبكستان والبلقان والبوسنة والقرم وإيران، ألا يسهمون في توسيع دنيانا؟ فلنحاول أن نقرأ الماضي والتاريخ الثقافي بهذا المنظور، لنر ما هو المنظر الذي سنراه.

وعند نقاش شعرية المعلّقات السبع يقول أدونيس: “زعم الذين أرّخوا للجاهلية أن الشعر كان الفن كله فيها وأنه كان يعبر عن إبداعية العربي الجاهلي كلها”، ثم يقوم بتقييم هذه العبارة كما يلي: “كيف أمكن للجاهليّ أن يبدع هذا الشعر العظيم دون أن يكون له فن آخر – نحت أو رسم أو موسيقى أو معمار؟” إذًا فلنسأل بدورنا: هل تتوقعون أن العقلية التي أقصت الشاعر يحيى كمال والروائي أحمد حمدي طانبينار -وهما شخصيتان خلّدا إسطنبول وثقافتها- من الساحة الثقافية التركية ملقّبة إياهما بلهجة استخفاف الأول بـ”الفردوسي العثماني” والثاني بـ”الرجل الأشعث”، كانت ستحتضن أدونيس  والتعددية التي يمثلها؟ إن التفكير في مدينة وشعرها يجب ألا يُعدّ من عمل البلديات، وأدونيس هو مثال واحد فقط على ذلك. وهناك الكثير ممن يحاول جاهدًا أن يعيش في هذه المدينة.

صحيفة قرار، 22 أيلول/سبتمبر 2020

Bir Cevap Yazın